العقوبات الدنيوية.. رحمة إلهية

قال الله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاَْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الآية 21 من سورة السجدة.

تشير الآية إلى أحد الألطاف الإلهية الخفيّة وهي موارد العذاب الخفيف في الدنيا ليتّضح أنّ الله سبحانه لا يريد أن يبتلى عبد بالعذاب الخالد أبداً، ولذلك يستخدم كلّ وسائل التوعية لنجاته، فيرسل الأنبياء، وينزل الكتب السماوية، ينعم ويبتلي بالمصائب، وإذا لم تنفع أيّة وسيلة منها فليس إلاّ نار الجحيم.

ماهو ( العذاب الأدنى
له معنى واسعاً يتضمّن أغلب الإحتمالات التي كتبها المفسّرون بصورة منفصلة:
فمن جملتها، أنّ المراد المصائب والآلام والمشقّة.
أو القحط والجفاف الشديد الذي دام سبع سنين وابتلي به المشركون في مكّة حتّى اضطروا إلى أكل أجساد الموتى!أو الضربة القاصمة التي نزلت عليهم في غزوة بدر، وأمثال ذلك.
أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد عذاب القبر، أو العقاب في الرجعة فلا يبدو صحيحاً، لأنّه لا يناسب جملة (لعلّهم يرجعون) أي عن أعمالهم.
من البديهي أنّ العذاب موجود في هذه الدنيا أيضاً، بحيث إذا نزل اُغلقت أبواب التوبة، وهو عذاب الإستئصال، أي العذاب والعقوبات التي تنزل لفناء الأقوام العاصين حينما لا تنفع ولا تؤثّر فيهم أيّ وسيلة توعية وتنبيه.
ماهو ( العذاب الأكبر )؟
فيعني عذاب يوم القيامة الذي يفوق كلّ عذاب حجماً وألماً.
لماذا جعل (الأدنى) في مقابل (الأكبر)، في حين أنّه يجب إمّا أن يقع الأدنى مقابل الأبعد، أو الأصغر في مقابل الأكبر؟
وذلك أنّ لعذاب الدنيا صفتين: كونه صغيراً، وقريباً، وليس من المناسب التأكيد على صغره عند التهديد، بل يجب التأكيد على قربه. ولعذاب الآخرة صفتان أيضاً: كونه بعيداً وكبيراً، والمناسب في شأنه التأكيد على كبره وعظمته لا بعده ـ تأمّلوا جيداً ـ .
وتقدّم أنّ التعبير بـ (لعلّ) في جملة (لعلّهم يرجعون) بسبب أنّ الإحساس بالعقوبات التحذيرية ليس علّة تامّة للوعي واليقظة، بل هو جزء العلّة، ويحتاج إلى أرضيّة مهيّأة، وبدون هذا الشرط لا يحقّق النتيجة المطلوبة، وكلمة (لعلّ) إشارة إلى هذه الحقيقة.
وتتّضح من هذه الآية إحدى حكم المصائب والإبتلاءات والآلام التي تعتبر من المسائل الملحّة والمثيرة للجدل في بحث التوحيد ومعرفة الله وعدله.
و اُشير في آيات اُخرى من القرآن إلى هذه الحقيقة، ومن جملتها في الآية (94) من سورة الأعراف (وما أرسلنا في قرية من نبيّ إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون).
ولمّا لم تنفع أيّة وسيلة من وسائل التوعية والتنبيه، حتّى العذاب الإلهي، لم يبق طريق إلاّ إنتقام الله من هؤلاء القوم الذين هم أظلم الناس، وكذلك تقول الآية التالية: (ومن أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه ثمّ أعرض عنها إنّا من المجرمين منتقمون).
فلم تؤثّر فيهم النعمة الإلهيّة، ولا العذاب والإبتلاءات التحذيرية، وعلى هذا فلا أحد أظلم منهم، وإذا لم يُنتقم من هؤلاء فمّمن الإنتقام؟
والتعبير بـ (ثمّ) في الآية، والذي يدلّ عادةً على التراخي، لعلّه إشارة إلى أنّ أمثال هؤلاء يُعطون فرصة ومجالا كافياً للتفكير والبحث، ولا تكون معاصيهم الإبتدائية سبباً لإنتقام الله أبداً، إلاّ أنّهم سيستحقّون إنتقام الله عزّوجلّ بعد إنتهاء الفرصة اللازمة.

المعنى الحقيقي للإنتقام :
 أنّ التعبير بـ (الإنتقام) يعني العقوبة في لسان العرب، ومع أنّ معنى الكلمة أصبح في المحادثات اليومية يعني تشفّي القلب وإبراد الغليل من العدو، إلاّ أنّ هذا المعنى لا وجود له في الأصل اللغوي، ولذلك فإنّ هذا التعبير قد إستعمل مراراً في شأن الله عزّوجلّ في القرآن المجيد، في حين أنّه سبحانه أسمى وأعلى من هذه المفاهيم، فهو لا يفعل شيئاً إلاّ وفق الحكمة.

__________________

منقول بتصرف من  كتاب الأمثل في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل


للعلاّمة الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي/المجَلّد الثالث عشر


هناك 6 تعليقات:

  1. سبقت رحمته غضبه ..


    يهب الله تعالى للإنسان فرصاً وتنبيهات عديدة كإن تكون مرضاً أو فقراً لكي يوقظ عقله ويتحاشى الوقع في العذاب الأكبر ..


    بوركتِ أختاه ..

    وشاكرة لكِ إستجابتكِ وتغيير إعدادات التعليق ..

    ردحذف
  2. زهراء..
    حمداً لله أن ربنا غفور رحيم
    أنرتي التدوينة..
    وما دام في الأمر راحة لزواري الكرام فلا داعي للشكر عزيزتي

    ردحذف
  3. أول مرة أقف عند هذه الآية و كأني أقرأها أول مرة!
    تفسير جميل جدا و قريب من الأذهان
    رب اغفر لنا و ارحمنا و اهدنا صراطك المستقيم
    شكرا على البوست
    جزاك الله خيرا

    ردحذف
  4. رب اغفر لي.. أهلاً وسهلاً أبداً بك هنا
    من معجزات القرآن أننا كلما قرأناه وتأملنا فيه أكثر كلما تكشفت لنا حقائق أكثر
    وبالفعل هذا الكتاب جداً رائع ويربط الواقع بالقرآن
    أهلاً مجدداً
    وشكراً لك

    ردحذف
  5. جعلتيني لاول مره اتامل بهذه الايه المباركه

    وذكرتنيني بهذا الموضوع بمقال كتبته ونشرته بمدونتي السابقه عن مااجمل ابتلاء ربي وذكرت به قصص من الواقع عن اشخاص بسبب ابتلاء صعب مروا به حياتهم انقلبت للاحسن واصبحوا اكثر التزام بالدين

    لا حرمنا الله من مواضيع مثل هذه النوعيه

    فلك مني جزيل الشكر

    ردحذف
  6. اذكر تدوينتك جيداً.. كانت رائعة
    سبحان الله يحطينا بألطافه وهباته
    ولا حرمنا إطلالاتك المميزة هاهنا
    دمتي بخير أبدا :)

    ردحذف

ألقي نوراً من فكرك لنستفيد :)