تجري بما لا نشهي

بسم الله الرحمن الرحيم

وأبحرت السفينة.. وعلى سطحها أقف مستنداً على سورها أُحدّق ظاهراً في زرقة البحر اللامتناهية وفي عقلي يمر شريط حياتي، وهنا ندّت عني تنهيدة لأسمع صوتاً بجواري:
إن البحر لرائع.. أليس كذلك؟
التفت لأرى شاباً يصغرني بأعوام، ابتسمت له ويبدو أن ابتسامتي شجعته على الاسترسال :
هذه الزرقة الصافية تهبني الأمل.. لا تلمني فهي رحلتي الأولى للخارج، سكت لبرهة وأردف مبتسماً : اسمي محمد، ما اسمك؟
-          علي..
كنت أفكر بالماضي وإذا به يتمثل أمامي بحديثي مع محمد الذي كان يشدني للماضي بقوة أو بقسوة لم يتعمدها. انسحبت معتذراً بالصداع واستلقيت في غرفتي ليبدأ شريط الذكريات.. من محمد، مني، من كل ذلك الأمل الأحلام الطموح.
" انجح في دراستك لتجد عملاً يُدر لك دخلاً جيداً يريحك، وآنذاك تحمل المسؤولية عني" هكذا كان يبادرني كلما هممت بمساعدته في عمله الشاق لتبقى جملته تتردد في رأسي وأنا أحلم بأمران لم أنعم بهما الغنى والأخوة، ومع مرور الأيام تزداد تفاصيل حلمي ويزداد معها عزمي وجهدي للنجاح.
نجحت بل تفوقت ووجدت عملاً أكثر من مناسب وما زلت أعمل بجد حتى أثبتُ جدارتي بسرعة أهلتني للحصول على بعثة للعمل في الخارج وهي فرصة لم تتح لغيري، عدتُ أحمل البشرى لوالديّ وأنا لا أطيق صبراً ليأتي يوم سفري. كان والداي يتهامسان على سفرة العشاء والبسمات تعلو وجهيهما.. ترى هل وصلتهما أصداء فرحتي! لكن ذلك كان بعيداً فهاهي والدتي تكشف الأمر بأنها وجدت عروساً مناسبةً لي.
رفضتُ أمر الزواج حتى اُثبت نفسي في عملي وبالمقابل رفض والدايّ أمر بعثتي، أصابني ذلك بالإحباط بل شعرتُ أني محطم كلياً فكأن والداي برفضهما سفري يسدّان باب أحلامي ويُعيقان من وصولي إليه لكني لم أيأس فحاولت كثيراً حتى رضيا ولكن بغير اقتناع من سفري وبعدي، سافرت ودموع أمي تشيعني ووصايا أبي تحفني، سافرت وأمل المستقبل طغى على ألم الفراق حتى كاد يمحقه.
سنتان مرتا لم أرَ فيهما والداي إلا نادراً فقليل من الجدّ يعقبه الراحة في كنفهما لكن ليت الحياة تمضي كما نخطط ونتمنى فقد وردني اتصال من جار يخبرني برحيل والدي. على غير تصديق وعلى وجه السرعة سافرتُ لموطني لأجد أمي وقد زادها الهم سنوات، سألتها : هل رحل؟ هزت رأسها إيجاباً وهي تطبق شفتيها وتقوسهما للأسفل.  
-          كيف؟ سألتها بشفةٍ مرتجفة.
-          لم تكن سوى شهقة وغاب بعدها عن الدنيا.. هكذا أجابتني بصوتٍ مبحوح ودموعٍ لا تكف، وفتحت ذراعيها لي فجريتُ لها أحتضنها علّي أُخفف نار لوعتي وغربتي وبعدي.
في تلك الليلة لم أستطع النوم فخرجتُ أبحث عن آثاره في بيتنا الصغير، هنا كان يجلس.. هنا كان يقرأ القرآن بعذوبة.. و هنا ترك لنا شجيراتٍ غرسها بيديه، عدت إلى غرفتي وأنا أجاهد في كتم صوت بكائي كي لا يصل لمسامع أمي. مرّت أيام العزاء وأمي تذوي أكثر حتى أوقعتها الحمى وبين المشفى والبيت كانت تتمتم باسم أبي وتوصيني بنفسي، كانت أحياناً تبتسم وهي تربت على شعري وهي تقول: " أتمنى أن أحضر زواجك".. لكنها لم تحضره بل توفيت بعد أقل من شهرين من وفاة والدي.
توفيت وتركتني وحدي أعاني الألم، بقيتُ أياماً أشعر بالضياع وأبكي بصوت مرتفع كطفلٍ تاه عنه والداه في وسط الزحام.. نعم لقد ضاع مني والداي في وسط زحام أمنياتي وأحلامي.. ضاعت سنينٌ كان من المفترض أن أقضيها في كنفهما.. ضاعت وبقيت وحدي. وها أنا اليوم أعود لموطن غربتي هارباً خجلاً من ذكراهما وكأن بموتهما قد تقطعت جذور وصلي مع الأرض.

هناك 6 تعليقات:

  1. موفقين إن شاء الله ..

    ردحذف
  2. أهلاً بك هنا :(
    شكراً على التشجيع
    موفقين جميعاً

    ردحذف
  3. تجري كما لانريد وكما لانحب وكما لانفكر ...

    وكم نسخر من إنفسنا بعد إن يُجهدنا التفكير بالغد .. وبكل بساطة تأتي لحظة ليس لها في الحُسبان مكان فتمزق كل ما سبق !!!


    إحلام شباب علي المتفجر في ذاته .. قطعته حتى عن ذاته ..

    أحب نصكِ ..

    ردحذف
  4. وليتنا نعي..
    شكراً زهراء
    حبكِ له وسام أفتخر به

    ردحذف
  5. اقشعر بدني عند القراءة سبحان الله للفقد اثر على النفس وهو الحقيقة التي نحاول تجاهلها من فقد جئنا وللفقد ذاهبون مع ذلك تبقى الاحلام رائدنا..
    قصة معبرة موفقين

    ردحذف
  6. عندما نصل لحقائق أمور هذا الكون فلن نكون إلا سعداء
    ومن ضمنها الفقد والدنيا والأحلام
    ليتنا نصل لحائقها لنرسو بثقة لاتزعزعها ظلمات وزوابع الدنيا
    وفقتم لكل خير..

    ردحذف

ألقي نوراً من فكرك لنستفيد :)